الأحد 23 فبراير 2020
تذكرت هذه القصة من الزوبعة التي حدثت بسبب محمد رمضان.ـ
أثناء عملي في السخنة في أوائل الافين كان السفر يوم الأحد فجرا والعودة يوم الخميس بعد العمل هو الروتين الأسبوعي. كان طريق السخنة والذي كان يطلق عليه وقتها طريق القطامية خطير جدا لضيقه وازدحامه بعربات النقل، فكنا نستعمل طريق السويس. ولكن بعد سنتين أو ثلاثة تم توسعة طريق السخنة وتحولنا لاستعماله حتى قبل الانتهاء منه.ـ
كنت أحيانا أثناء رجوعي يوم الخميس أخرج من مخرج مصنع الاسمنت قبل محطة الرسوم واتجه لمنطقة القاهرة الجديدة، وخصوصا إذا كنت مسافرا بسيارة زوجتي الرباعية الدفع. كانت فرصة لإشباع رغبتي الدائمة للاستكشاف ولمتابعة تطور الحركة العمرانية وأيضا للعب بالسيارة في الصحراء التي كانت تغطي اغلب منطقة القاهرة الجديدة.ـ
في إحدى هذه المرات توغلت على ما يبدو أكثر من المعتاد ففقدت اتجاهاتي. وبعد ساعة تقريبا من السير في الطرق الغير ممهدة والمدقات فشلت في الوصول لأي من المعالم المعروفة وبدأت ارتبك، فالساعة كانت قاربت على الخامسة مساءا والتليفون لا يلتقط إشارة ولو دخل الظلام لن يكون هناك حل غير النوم في السيارة للصباح. طبعا هذا سيناريو كارثي، ليس لي ولكني أعلم تماما أن زوجتي بعد ساعات قليلة من عدم وصولي في موعدي ستفترض حدوث مصيبة وستتصرف تباعا. ولا مجال هنا لسرد تفاصيل تصرفاتها في مواقف مشابهة سابقة، ولكن باختصار شديد ستقوم جميع الجمهورية بافتقادي ومحتمل أن تفتقدني قارة أفريقيا كلها والقارات المجاورة أيضا، واللي ما يشتري يتفرج، على رأي المثل المصري. فزاد ذلك من ارتباكي.ـ
في وسط الصحراء المترامية وتحت قرص الشمس الذي تحول للون البرتقالي وبدأ يلامس التلال الصحراوية رأيت بناية تحت الانشاء يظهر بها بعض الحركة وعندما اقتربت كان يجلس امامها رجل على كرسي بثلاثة أرجل وتم الاستعاضة عن الرجل الرابعة للكرسي بقالبين طوب. فكان الانقاذ وتوجهت لطلب المساعدة.ـ
بداء الرجل يشرح الطريق ثم توقف وقال: “أقول لك، في واحد من العمال عندي وقع النهارده الصبح ورجله وجعاه ومكناش عارفين نعمل ايه طول اليوم والباشمهندس مجاش. ينوبك ثواب تخده معاك، يدلك على الطريق وبالمرة توصله لأي مكان فيه مواصلات عشان يرّوح”.ـ
أنا كنت غريق وهذا قارب نجاة وليست قشة فوافقت. عندها سمعت الرجل ينادي: “واد يا رمضان، أمك دعيالك، لملم خلجاتك وتعالى أركب مع الباشا حيوصلك لأقرب مكان فيه مواصلات”.ـ
بدأ تنفسي ينتظم وأنا أردد في سري “أنا اللي أمي دعيالي”ـ
ثواني وخرج رمضان من داخل عشة خشبية يتحنجل مستندا على قطعة خشب رافعا رجله اليسرى المربوطة بقطعة قماش تفتقر لأي معالم للنظافة واثار الألم ظاهرة على كل تعابير وجهه ومستندا على أثنين من زملائه الذين قاموا برفعه ليركب في الكرسي الامامي في سيارتي المرتفعة ويضعوا شنطته القماش على الكنبة الخلفية.ـ
محمد رمضان، وهذا اسمه بعد أن تعرفت عليه، شاب لم يكمل العشرين عاما بعد. لا يتحدث إلا إذا سُئل. بعد ربع ساعة تقريبا بتوجيهاته بدأت اتعرف على المعالم حولي وبدأت اسيطر على ارتباكي، فبدأت أحاول أن أعرف معلومات أكثر عنه رغم الإجابات المقتضبة التي كنت اتلقاها. عرفت أن رجله علقت بحديد التسليح فسقط عليها. وهو يتألم من وقت الحادث منذ الصباح. عرفت انه أصغر أخوته، يسكنون في عين شمس مع أبوهم وأمهم. وعرفت أنه وأخوته الأربعة لم يدخلوا المدرسة على الرغم من محاولات الاب المتكررة.ـ
عندما وصلنا مصر الجديدة اقترحت عليه أن نذهب للمستشفى لفحص رجله لربما يكون هناك كسر وليأخذ دواء مسكن للألم الذي يعاني منه. كان رده مفاجئة لي.ـ
ـ”أعوذ بالله، أنا مدخلش مستشفى أبدا”!ـ
ـ”ليه يا رمضان هي المستشفى عيب والا حرام؟”ـ
ـ”أحنا طول عمرنا بتعالجنا ست جارتنا ساكنة في أول الحارة. عمر ما حد فينا راح لدكتور ولا لمستشفى”!ـ
وفشلت كل محاولاتي لإقناعه لدرجة أنه طلب منى التوقف حتى ينزل فورا. فتوقفت عن محاولاتي لإقناعه وأنا لا اصدق هذا التفكير.ـ
ثم تكرر نفس التصرف عندما عرضت عليه توصيله لبيته. أيضا رفض تماما وبعد محاولات وبعد أن اقسمت له أن موقف اتوبيسات منطقة الالف مسكن في طريقي وافق أن أقوم بتوصيله للموقف.ـ
عندما وصلنا نزلت من السيارة لاساعده على النزول. ثم أخرجت مبلغا من المال طالبا منه أن يستعمله لركوب تاكسي بدل الميكروباص.ـ
ففاجئني رمضان للمرة الثانية قائلا: “هو مين اللي مفروض يدي فلوس لمين؟ المفروض أنا اللي اديلك فلوس عشان التوصيلة، ثم أنه مفيش تاكسي بيوافق يروح عندنا”.ـ
أسقط بيدي، لم أعرف كيف أرد على هذا الشاب الصغير الذي لم يتلق أي تعليم ولكن تشهد له عزة نفسه وكرامته رغما عن اصابته وتألمه. وفشلت للمرة الثالثة في إقناعه أنه هو الذي أنقذني من التوهان وقضاء الليلة في الصحراء.ـ
استند على زراعي حتى ركب الميكروباص بمساعدة باقي الركاب، وافترقنا.ـ
التكنولوجيا نجحت في تحديد موقعك على الأرض، تبقّى البحث عن تقنية تحدد فيها موقعك في الحياة
حسن كمال. كاتب وطبيب مصري