الحياة



الأحد 23 سبتمبر 2018

في البداية أقدم اعتذاري لكتابة هذه المقالة، فقد دفعتني تجربة قاسية مرت بها صديقة عزيزة، من ضمن تجارب عديدة عرفتها ومررت شخصيا بها، للتفكير في هذا الموضوع الشائك. على الرغم من تأكدي أن التفكير في مثل هذه المواضيع غير مثمر عادة. ربما لمحدودية فهمي وعدم قدرتي على استيعاب كثيرا من المفاهيم المرتبطة بوجودنا ورحيلنا. فينتهي بي الحال بأن أقبل ما زُرع داخلي من مفاهيم بالمعايشة وبالتكرار. أو لاعتبار الكثيرين أن طرح هذه الأسئلة المحرمة هو خروج عن المألوف المقبول ودرب من الهذيان المرفوض. ولكن ظلت الأفكار تصول وتجول في رأسي فقررت أن أتخلص منها بكتابتها، لعلها تختفي بين الأحرف والكلمات.ـ

في وعظة الجنازة التقليدية يسهب رجل الدين في شرح كيف أن الموت ليس النهاية بل هو البداية لحياة فرح بدون ألم وبلا عذاب وكيف أن أهل المتوفى يجب أن يفرحوا لذلك، ثم يختم بكلمة عزاء حزينة في تناقض مباشر لما كان يقوله قبل ثواني.ـ

هل التشبث بالحياة غريزة مزروعة داخلنا؟ أم خوفنا من الموت هو هذه الغريزة؟

عندما يصاب أنسان قريب منا بمرض عضال نكون مستعدين لتقديم كل ما هو ممكن من علاج حتى لو كنا نعلم أن العلاج مؤلم وقاسي واحتمالات نجاحه تكاد تكون معدومة. نقرر مع أنفسنا أن أي عذاب لمريضنا الغالي هو أفضل من الموت حتى لو كان مجرد محاولة لإطالة العمر لأيام أو لشهور يقضيها في عذاب. نخاف برعب من التقصير حتى لا نلوم أنفسنا على أننا السبب في الموت. وغالبا نستمر في تعذيب مريضنا حتى النهاية إلا أذا استطاع أن يقرر هو أنه قد أكتفي واستطاع أن يتخذ بنفسه قرار الرحيل ووجد من يساعده على تنفيذ هذه الرغبة.ـ

غريب جدا كيف نواجه الحقيقة الوحيدة المؤكدة في الحياة.ـ

رغما عن كل المفاهيم الدينية والفلسفية عن الموت والحياة بعد الموت لكننا دائما نتعامل مع الموت على أنه الفراق النهائي حتى لو كنا ندعي غير ذلك، وحتى لو كنا نعلم يقينا أننا كلنا لا محالة سائرون في نفس الدرب.ـ

جزء موجع من هذه التجارب هي الذكرى. فتبقي صورة النهاية هي المطبوعة في ذاكراتنا.ـ

الغريب أننا نتقبل أخبار صرف المليارات على صناعة السلاح لضمان تحول الصراعات الإنسانية بكل اشكالها لحروب يقتل الناس بعضهم بعضا فيها بالمئات وبالألوف بلا تأثر وبلا حساب. ثم نشاهد بدون أي انفعال صانعي قرارات الحروب وهم يقومون بوضع أكاليل الزهور على قبور ضحايا هذه الحروب بتأثر مصطنع في مشهد تمثيلي يتم تصويره وأذاعته كأنه حدث إنساني سامي. ومع ذلك فإن الموت الرحيم أو القتل الرحيم هو من المواضيع الشائكة التي يهتز لها ضمير الإنسانية المشوش، والتي دأبت الأوساط الطبية والقانونية في كل دول العالم على محاولة تصنيفه وتقنينه ولكنه يبقي اجتماعيا مثيرا للجدل ومرفوض كليا من كل الأديان. وطبعا كلنا نعلم أن القتل الرحيم مقبول تنفيذه على الحيوانات.ـ

أحد الباحثين قدّم تعريفاً للموت الرحيم بقوله: “هو الاستجابة لرغبة مريض، بإنهاء حياته نتيجة لمعاناة هذا المريض من آلام مبرحة لا يمكن تحملها، والميؤوس من شفائها نهائيا وقطعيا”. ثم تساءل: هل يُعتبر هذا العمل جريمة قتل يُعاقب عليها، أم يُعدّ عملا إنسانيا مشروعا؟

الإجابة على هذا التساؤل تحيرني.ـ

لا توجد حقيقة يمكن أن تعالج الحزن الذي نشعر به من فقدان أحد الأحباء. لا حقيقة ولا صدق ولا قوة ولا لطف يمكن أن يعالج ذلك الحزن. كل ما يمكننا فعله هو أن نعيشه حتى النهاية ونتعلم منه شيئا، ولكن ما نتعلمه لن يساعدنا في مواجهة الحزن التالي الذي يأتي إلينا دون سابق إنذار.ـ

من رواية الغابة النرويجية للمؤلف الياباني هاروكي موروكامي

Leave a Reply ! أترك رد

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.